من زمن المأساة إلى زمن المهزلة:

رقنت قبل جائحة كورونا في إطار بحث أكاديمي عبارة "أزمة الأخلاق" في محرك البحث Google فكانت النتيجة 3.000.000 مقال وصفحة تتحدث عن أزمة الأخلاق والقيم التي تعيشها مجتمعاتنا العربية مع بداية هذه الألفية الثالثة، ثم أعدت رقن نفس العبارة خلال هذه السنة 2024، فكانت النتيجة مرعبة، إذ تعدت 11 مليون مقال وصفحة. 

تطور متسارع لأزمة القيم في العالم وفي بلدنا الحبيب المغرب، حيث الكل يتحدث عن الخراب الذي تعيشه المنظومة التربوية بالمغرب وانعكاساتها على المجتمع، حديث يذكرني بمؤلفات السلفية المجددة التي انتقدت العطب الأخلاقي والقيمي الذي أصاب مجتمعات القرن 19م، حين فقدت هاته المجتمعات جميع روابطها سواء فيما بينها أو بينها وبين الدولة، فأصابها الخمول والسكون والرضا بالعيش الدون، وتركت الاجتهاد وهربت من تحمل المسؤولية، وتناست العوائد السامية حتى صار للماشطات أي "النكافات" تأثير على الأفكار قويا أكثر من تأثير الخطباء 1 ، كما عبر عن ذلك خبير عصره الفقيه والموظف المخزني والتاجر محمد بن الحسن الحجوي. حيث رد هؤلاء الدعاة أسباب هذا التردي إلى الفساد وفقد النظام وفساد الأخلاق وانحطاط العلوم والمعارف الذي كاد حسب عبد السلام بنونة، أن يحول الأمة إلى "همجية حقيقية" 2. ومن أجل تجاوز هذا الوضع اتفقت السلفية المجددة من خلال مشروعها الإصلاحي التجديدي على أن المجتمع يحتاج بإلحاح "إلى إصلاح وتجديد للأخلاق والقيم والسلوك من أجل الرقي والمدنية" 3، فكان نتيجته ظهور العديد من المبادرات التربوية تطورت وازدهرت مع بروز تحدي الاستعمار.


الكشفية الحسنية المغربية سنة 1940 م

تحد استجاب له شباب الحركة الوطنية، حين استلموا المشعل من شيوخهم فطوروا وبدلوا وحوروا وأبدعوا وابتكروا العديد من الآليات لتربية المجتمع المغربي وتنظيمه، كالمدارس الحرة والجمعيات الثقافية والرياضية، ونشر الصحف والجرائد،... فظهرت المبادرات التنظيمية الأولى للشباب المغربي منذ 1919 داخل جمعيات قدماء التلاميذ، التي اعتبرها مجموعة من الوطنيين بمثابة "الإرهاصات الأولى المعبدة لتأسيس الحركة الوطنية" 4، فمارسوا فيها المسرح والتمثيل... كما اهتموا من خلالها بالجانب التعليمي والثقافي والفكري... فكان لها دور أساسي في تكوين طليعة من الشباب المغربي ميدانيا على التنظيم والتخطيط والعمل الجماعي...

هذا التكرار التاريخي Historic recurrence‏ أو التاريخ يعيد نفسه، يحيلنا إلى حكمة بليغة خلفها المؤرخ والفيلسوف كارل ماركس، والتي تقول بأن "التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفى المرة الثانية كمهزلة ". واليوم الكل يجمع على أننا نعيش مهزلة حقيقية على مستوى الأخلاق والقيم والهوية والفطرة... تحتاج منا جميعا إلى وقفة حازمة تروم تكوين الأجيال الصاعدة وإعادة صياغتها.

 

 

الأنشطة الموازية بين النجاعة المجربة والإجماع الوطني:

نجح أسلافنا قبل مائة سنة وبالضبط خلال العقد الثاني من القرن العشرين وهم تحت وطأة الاستعمار في وضع اللبنات الأولى لبناء جيل محصن تربويا منظم هيكليا قادر على الإنجاز ميدانيا، استطاع بوسائل بسيطة أن يقاوم الاستعمار الثقافي والقيمي قبل الاستعمار العسكري الاقتصادي. حيث شكلت الأنشطة التربوية الموازية في نوادي المؤسسات التعليمية من مسرح ورياضة وحركة كشفية... لبنة أساسية في صناعة الترياق الذي أخرجهم من المأساة التي عمت زمانهم. ونحن اليوم في زمن المهزلة التي طغت علينا، كلنا مجمع دولة وفاعلين تربويين ومتعلمين وأسر ومجتمع مدني... على أن الحل الوحيد لإخراج أبناءنا من فخ العولمة والمهزلة التي نتجت عنه، يكمن في ملئ أوقات أبناءنا بما ينمي كفاياتهم ويحفظ فطرتهم ويشكل هويتهم...

 

إجماع يظهر في خارطة الطريق التي أشركت أزيد من 100.000 مشارك، حيث كانت من بين انتظاراتهم الكبرى إدراج الأنشطة الموازية بكيفية منتظمة في مشروع المؤسسة 5وتجلى هذا الإجماع بشكل أكبر حين حددت خارطة الطريق ثلاثة أهداف استراتيجية لها في أفق سنة 2026، كان ثانيها الأنشطة الموازية Activités parascolaires بعد التركيز على التعلمات الأساس 6.

 

 

الأندية التربوية ضرورة تربوية ملحة لبلورة لحن عام قوامه الحد من المهزلة:

 

"الأندية التربوية ضرورة تربوية ملحة" خلاصة ممكن أن تحل أزمة جيل يحتاج إلى حفظ فطرته وهويته وصحته الجسدية والنفسية في ظل هجوم كاسح لثقافات وعادات تدمر كل شيء في هذا الجيل الناشئ. الأمانة المنوطة بنا نحن الأجيال الراشدة أن نحافظ على توازنات هذا الجيل الصاعد، وأن ننقل إليه ما نقله لنا آباءنا وأجدادنا من قيم ومبادئ، والا سنذوب في هذا البحر اللجي للعولمة. فحسب كورنو Cournot الذي قد يعتبر أول من أدرك أهمية مسألة الأجيال الاجتماعية، فإن "كل جيل ينقل عن طريق التربية ثروة من الأفكار إلى الجيل الذي يليه مباشرة، وبينما تجري هذه التربية وذلك النقل يخضع الجيل التربوي لأثر جميع الأحياء من الجيل السابق الذين ما يزالون يسهمون بحظ من النشاط في الدولة والمجتمع وفي حركة الأفكار والأعمال" 7، "وهكذا يتكون لحن عام للروح العامة... يتغير ويأخذ اتجاها جديدا كل ثلاثين سنة" 8 إلى أربعين سنة، وهو في زماننا لحن مقاومة التفاهة والمهزلة.

 

" وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75خَالِدِينَ فِيهَا ۚ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77) " 9.                                             

 

 

مراجع ومصادر المقال :

1.     القرآن الكريم

2.     محمد معروف الدفالي، أصول الحركة الوطنية بين السلفية المجددة والسلفية الجديدة، منشورات أمل (التاريخ، الثقافة، المجتمع)، الطبعة الأولى، الرباط، 2014

3.     رونيه أوبير، التربية العامة، ترجمة عبد الله عبد الدائم، بيروت، دار العلم للملايين، الطبع السادسة، 1983

4.     خارطة طريق 2022-2026 اثنا عشر التزاما من أجل مدرسة عمومية ذات جودة، وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، 2022

5.     موقع Google

6.     موقع madrastna






[1]  محمد معروف الدفالي، أصول الحركة الوطنية بين السلفية المجددة والسلفية الجديدة، منشورات أمل (التاريخ، الثقافة، المجتمع)، الطبعة الأولى، الرباط، 2014، ص 130

[2]  المرجع نفسه، ص 129

[3]  نفسه، ص 134         

[4]  نفسه، ص 281

[5]  خارطة طريق 2022-2026 اثنا عشر التزاما من أجل مدرسة عمومية ذات جودة، وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، 2022، ص 11

[6]  المصدر نفسه، ص 12

[7]  رونيه أوبير، التربية العامة، ترجمة عبد الله عبد الدائم، بيروت، دار العلم للملايين، الطبع السادسة، 1983، ص 71

[8]  نفسه، ص 72

[1]   [9] القرآن الكريم، سورة الفرقان، الآيات 74-75-76-77



 

                                                          

ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق